مع بدء كلّ عامٍ جديد، يتجدّد عند الأفراد والشعوب الأمل بتغييرٍ في حياتهم وظروفهم نحو الأفضل، دون إدراك أنّ “الزمن” وحده لا يُغّير الحال، وبأنّ سياسة “حسيبك للزمن” ربّما تنجح عاطفيًا لكنّها لا تُغيّر عمليًا من الواقع شيئًا. قد يحدث ربّما العكس، حيث يؤدّي تراكم السلبيات مع مرور الزمن إلى مضاعفة المشاكل والأزمات.
إنّ نهاية عام، وحلول عام جديد، هي مسألة رقمية رمزية لا تغيّر شيئاً من واقع حال الإنسان أو الطبيعة في أيّ مكانٍ أو زمان. لكن المعنى المهمّ في هذا التحوّل الزمني الرقمي هو المراجعة المطلوبة لدى الأفراد والجماعات والأوطان لأوضاعهم ولأعمالهم بغاية التقييم والتقويم لها. فهي مناسبة لما يسمّى ب”وقفة مع النفس” من أجل محاسبتها، وهي حثٌّ للإرادة الإنسانية على التدخّل لتعديل مسارات تفرضها عادةً سلبيات الأوضاع الخاصّة والظروف العامّة المحيطة. ولا يهمّ هنا إذا كانت هذه المحطَّة الرقمية الزمنية هي في روزنامة سنة ميلادية أو هجرية، أو هي مناسبة لعيد ميلاد أفراد أو تأسيس أعمال أو لأعياد وطنية، فالمهمّ هو إجراء المراجعة والتقييم والتقويم، ومن ثمّ استخدام الإرادة الإنسانية لتحقيق التغيير المنشود.
لكن بعض الناس (كأفرادٍ أو كجماعات) تكون إرادتهم مُسيّرة من قِبَل آخرين، بفعل ظروف الحاجة أو بسبب الضغوط وعناصر القوة التي تفرضها إرادة البعض المتمكّنين بالمال أو بالسلطة وفق ما يُعرف بمصطلح “الترغيب والترهيب” أو “القدرة على المنح والمنع”. وهنا يحصل الفارق، بين منْ إرادتهم الذاتية مشلولة ويعيشون حياتهم في خدمة إرادة آخرين، وبين من إرادتهم حرّة لكن يعانون من “الترهيب أو المنع”. فالنّاس هم على درجاتٍ في المعرفة والعلم، أو بعناصر القوّة بمعناها الشامل للقوى المادية والمعنوية (المال والنفوذ والسلطة وأدوات القمع). وفي الحالات كلّها، تتوفّر للبعض إمكانات التحكّم بآخرين، وإعلاء أو تهميش من يرغبون. ويحصل هنا أيضاً الفارق بين من يرضون العيش في حالة الرضوخ لإرادة الآخرين، فتكون إرادتهم مُهمَّشة، حتّى لو لمعت أسماؤهم في المجتمعات، وبين من يرفضون هيمنة الآخرين على إرادتهم، ويصرّون على مواجهة الواقع المرفوض رغم كلّ العقبات.
إنّ المعيار في الحياة، من وجهة نظري، هو منطلَق الإنسان ومبادئه التي تُرشد أعماله، وليست النتائج التي تترتّب على هذا المنطلق والمبادئ، حيث يسقط هنا شعار: “الغاية تبرّر الوسيلة”. فلا يجوز مثلاً لكاتبٍ أن يجعل “قلمه” مرهوناً فقط لإرادة الآخرين من أجل تأمين “بحبوبة العيش” أو بحثاً عن الشهرة أو عن “الأمان الجسدي”. لذلك، من المهمّ لدى كل إنسان معرفة مدى استعداده لرفض أو قبول هيمنة “إرادة الآخر” كمبدأ. فكم من أسماء بارزة تتصدّر المجتمعات، وبعضها يصل أصحابها إلى مواقع مسؤولة عالية، كرئاسة دول أو حكومات، لكن إرادتهم تكون مرهونةً لآخرين، معلومين كان هؤلاء أم مجهولين. وكم من أصحاب إرادةٍ مستقلّة، لا نعرفهم ولا نسمع عنهم، ثمّ نكتشف لاحقًا دورهم الكبير في تغيير مجتمعات أو أحوال جماعات. فالتهميش الذي يحصل لهؤلاء هو خاضعٌ لنسبيّة المكان والزمان، لا لطبيعة أعمالهم أو ما قد تنجزه أعمالهم في المستقبل. هو أمرٌ مشابهٌ تمام الشّبه، بين إنسانٍ حرٍّ في تفكيره وعمله وإرادته غير أنّه بسبب حرّيته هذه معتقَلٌ في سجن، وبين آخر طليق لكنه مستعبَدٌ من قِبَل آخرين رغم أنّه يملك جاهًا أو مالًا أو سلطة. فمَن، في هاتيْن الحالتين، هو “الإنسان الحر”؟!
فخيرٌ للإنسان المفكّر أو الكاتب أو الإعلامي أو الناشط في خدمة الناس، أن يكون خاضعًا للتهميش الإعلامي أو “الحصار” المالي أو الاجتماعي، من أن يكون فكره أو قلمه أو نشاطه مسيّرًا من آخرين، رغم لمعان اسمه هنا أو هناك.
ولعلّ في تجارب الإعلاميين والكتّاب عمومًا، الكثير من المحطّات التي يكون فيها الخيار هو بين “التهميش” وحرّية الفكر والكتابة والعمل من جهة، أو التلميع والثراء، لكن مع تجيير الفكر والقلم لصالح جهاتٍ و”أجندات” محدّدة.
الأمر نفسه ينطبق على المراكز والمؤسّسات الثقافية وعلى المنابر الإعلامية، حيث نجد الكثير منها يخضع لتأثيرات “المموّل” ومصالحه حتّى وإن تناقضت مع المبادئ التي قامت عليها هذه المراكز والمؤسّسات. فقد تكون في “أجندة المموّلين” أولويات قضايا ومسائل ليست بالضرورة هي الأولويات العملية لهذه المؤسّسات، لذلك يحصل الخيار هنا أيضاً بين “راحة العمل” أو “راحة الضمير”!!.
وإذا كانت أبرز سمات المرحلة الراهنة عربيًا هي هيمنة التشرذم والانقسامات والصراعات القائمة على مضامين طائفية ومذهبية وإثنية وإقليمية، فإنّ من ينشط فكريًا وعمليًا من المؤسّسات أو من الإعلامين والكتّاب لتصحيح مسار هذه المرحلة، داخل المنطقة العربية وخارجها، يُصبح من “المهمّشين” أو من “المغضوب عليهم”!. فالواقع السلبي العربي الراهن هو حصاد لما جرى زرعه في السنوات الماضية، ولما يتمّ التشجيع عليه فكريًا وإعلاميًا من جهاتٍ محلّية وخارجية، نافذة وقادرة، ولها مصالحها فيما يحدث من صراعاتٍ وانقسامات.
وكمثال على ذلك، نجد أنّ تجربة “مركز الحوار العربي”، التي بدأت في واشنطن في ديسمبر من العام 1994، قد قامت على نقيض ما هو يسود الآن في الحياة الفكرية والسياسية العربية، من انقساماتٍ على أسسٍ إقليمية وطائفية وإثنية، هذه الظواهر المرضية الخطيرة التي تزداد الآن في المجتمعات العربية لأنّها موضع دعمٍ وتأييد من مواقع مختلفة، ومن بعض الجماعات المؤثّرة في المجتمع المدني العربي، إضافةً إلى السعي الأجنبي والإسرائيلي على نشر هذه الأوبئة التفتيتيّة في البلاد العربية، وبين العرب أينما وُجدوا.
فتجربة “مركز الحوار العربي” بدأت وتستمرّ في زمنٍ عربي لم تعد فيه قضيةٌ واحدة تجمع العرب، ولم يعد هناك همٌّ واحد للعرب. وما حاولته تجربة “مركز الحوار”، في أعوامها ال26 السابقة كلّها، وبالإصرار عليه، هو مسألة الجمع بين الهويّة العربية الحضارية في المنطلق والهدف، والحوار العربي الجادّ في الأسلوب. وأيضًا، السعي قدر الإمكان للتنسيق، ولو في الحدّ الأدنى، بين الطاقات الفكرية والثقافية والحركية العربية المتواجدة في الولايات المتحدة، وبينها وبين مثيلاتها في البلاد العربية. فهي تجربةٌ سبحت وتسبح عكس التيّار الراهن بكلّ سماته السلبية هنا وهناك!..
ولقد كان الهاجس، في السنوات الأولى من تجربة “مركز الحوار العربي”، هو هاجس ترسيخ القناعة بأهميّة الهويّة الثقافية العربية المشتركة وبضرورة أسلوب الحوار الجاد والعقلاني بين العرب.. ثمّ في السنوات الماضية كلّها، كان الهمّ الأول هو المحافظة على استقلالية تجربةٍ ذات هُويّة عربية واضحة، تستوعب الخصوصيات الوطنية، لكنّها لا تقبل بأن يتمّ استيعابها لصالح فئة أو خصوصية ضدّ أخرى، فهي وُجدت لتخدم وتفيد كل العرب وكل القضايا العربية المشتركة، وعلى ساحةٍ أميركية تزداد فيها التحدّيات أمام الجالية العربية، وتنطلق سياسات بعض إداراتها من مصالح “إسرائيل أولاً”!.
صوت عربي جامع في زمن تفشت فيه الإقليمية والجهوية وانتشرت في جنباته الطائفية والاثنية المقيتة في الوطن العربي المكلوم بقياداته الحاكمة والمعارضة إلا ما ندر،، لك التحية في هذا الزمن الصعب الذي تنحتون فيه باظافركم وعقولكم مع قوي وقيادات مقاومة، بدايات زمان عربي آخر حر و ديمقراطي تسود فيه قيم العدالة الاجتماعية والحقوق والحريات الأساسية بتنوعها،،،كل عام وأنت بخير،
الدكتور صبحي غندور المحترم
تحية طيبة بمناسبة دخول العام الجديد ٢٠٢١
لك مني أطيب الأمنيات وكل عام وانتم بألف صحة وخير
شروط التعليق:
التزام زوار "راي اليوم" بلياقات التفاعل مع المواد المنشورة ومواضيعها المطروحة، وعدم تناول الشخصيات والمقامات الدينية والدنيوية والكتّاب، بكلام جارح ونابِ ومشين، وعدم المساس بالشعوب والأعراق والإثنيات والأوطان بالسوء، وعلى ان يكون التعليق مختصرا بقدر الامكان.
ضربتان مُوجِعَتان: الأولى في العِراق والثّانية في سورية وفي اليوم الثّاني لولاية بايدن.. ما هي الرّسالة ولماذا وصلنا إلى هُنا؟ كيف نرى مُستَقبلًا قاتمًا للمِنطَقة بعد خُروج ترامب ومجيء خصمه؟ ولماذا نلوم روسيا وقِيادتها في كبح خِيار حتميّة الرّد؟
استِئنافٌ مُفاجِئٌ للعُلاقات المِصريّة القطريّة وقبل السعوديّة والإماراتيّة.. ماذا يجري بالضّبط؟ وما هي “كلمة السّر”.. “الجزيرة” وأخواتها؟ وكيف سيكون “المُقابل”؟ وهل هي “مُصالحة” دائمة أم تحت التّجربة؟ وعلى حِسابِ مَنْ؟
ضرر بايدن على العرب لا يَقِلُّ خُطورةً عن ترامب وبلينكن قد يكون أسوأ من بومبيو؟ وكيف ستُعيد رئيسة المُخابرات الجديدة خاشقجي للواجهة للضّغط على الأمير بن سلمان؟ وما هي خُطورة الجبري وأسراره في المرحلة المُقبلة؟ ولماذا نُحَذِّر الفِلسطينيين من المُبالغة بالفَرح؟
تراجع حاد في” التجارة والخدمات”..الوضع “كارثي” في السياحة تقلص في عائدات الضرائب: نقاشات “خشنة” من نواب الاردن لأصعب وأخطر “ميزانية مالية” وملاحظات مبكرة على أداء الحكومة وبروز شغف “الرقابة” بعد تصويت “الثقة” لصالح الخصاونة
سليم البطاينة: الموازنة العامة للدولة الاردنية 2021 معظمها بنود لا ترتبط بأهداف واضحة للتنمية ولا وجود لبرامج حقيقية لتحفيز النمو الإقتصادي …. وعجزها هيكلي
عزيز أشيبان: المغرب وإسبانيا و التوافق المستحيل
عدنان علامه: التفجير الإرهابي المزدوج في ساحة الطيران ضرورة إستراتيجية لأمريكا
محمد عبدالرحمن عريف: ماذا عن مناورة بايدن نحو العودة إلى “الاتفاق النووي” الإيراني؟
باهر يعيش: الناشط الروسي نافانلي.. إزدواج معايير و….قلّة حياء
ربى يوسف شاهين: “أمريكا أولا” بايدن والمقولة المشهورة لـ ترامب
محمد سلامة: وأخيرا.. انقلع
د. أماني القرم: رمال الشرق الأوسط بدأت تتحرك مرة أخرى
صوت عربي جامع في زمن تفشت فيه الإقليمية والجهوية وانتشرت في جنباته الطائفية والاثنية المقيتة في الوطن العربي المكلوم بقياداته الحاكمة والمعارضة إلا ما ندر،، لك التحية في هذا الزمن الصعب الذي تنحتون فيه باظافركم وعقولكم مع قوي وقيادات مقاومة، بدايات زمان عربي آخر حر و ديمقراطي تسود فيه قيم العدالة الاجتماعية والحقوق والحريات الأساسية بتنوعها،،،كل عام وأنت بخير،
الدكتور صبحي غندور المحترم
تحية طيبة بمناسبة دخول العام الجديد ٢٠٢١
لك مني أطيب الأمنيات وكل عام وانتم بألف صحة وخير