العميد أحمد عيسى
نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني، ومعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) خلال شهر تشرين أول/أكتوبر الماضي من العام الجاري 2019، دراسة بعنوان (ـتوجيهات أساسية لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي)، للباحثين غادي ايزنكوت رئيس الأركان الإسرائيلي السابق والباحث الزائر في معهد واشنطن منذ بداية العام الجاري، وجابي سيبوني الجنرال المتقاعد من الجيش الإسرائيلي والباحت في معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي.
من جهتها تسعى هذه المقالة للتنبؤ بمسارات تطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك من خلال قراءة الدراسة اولاً من حيث الشكل، وثانياً من حيث المضمون، ثم ستفحص في المضمون تقديم الدراسة للصراع من حيث كونه تحدي ومصدراً للتهديدات التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وثانياً من حيث الردود التي تقترحها الإستراتيجية لمواجهة هذه التحديات والتهديدات، ولا تنوي هذه المقالة تقديم توصيات لصانع القرار الفلسطيني، إذ أنها تكتفي بإثارة نقاش في أوساط النخب الفلسطينية حول تنبؤاتها التي قد تصيب وقد تخطأ.
الدراسة من حيث الشكل: وقعت الدراسة في 78 ورقة، وتكونت من مقدمة وخاتمة وخمسة فصول وقائمة للملاحق، حيث حمل الفصل الأول عنوان القيم والمصالح، وتناول الفصل الثاني البيئة الجيوستراتيجية للدولة، فيما حدد الفصل الثالث تحديات وتهديدات الأمن القومي الإسرائيلي، وشرح الفصل الرابع معززات الأمن القومي، وخصص الفصل الخامس والأخير لتحديد الردود على التهديدات.
أما قائمة الملاحق فشملت ثلاثة ملاحق، إذ تناول الملحق الأول قائمة المفاهيم التي احتوتها الدراسة التي بلغت (21) مفهوماً، وخصص الملحق الثاني لشرح المعايير الأساسية الذي إستندت عليها الدراسة في تحليل الأمن القومي في إسرائيل، أما الملحق الثالث فتضمن رسوم بيانية توضح مرجعية الأمن القومي خاصة الوثائق المصنفة للجيش ووزارة الدفاع، ومن حيث البنية المؤساتية للأمن القومي، وأخيراً من حيث هيكلية النظام العسكري في إسرائيل، وقبل ذلك كله المرجعية الدستورية والفكرية.
ومن جهة منهجية البحث التي طبقتها، فتظهر قراءة الدراسة أنها وظفت نموذج تحليلي يقوم على تحليل الأمن القومي في إسرائيل بناء على معايير محددة جرى تطويرها خصيصاً لهذه الغاية، حيث طورت الدراسة سبعة معايير اساسية وتفرع منها سبعة معايير أخرى، ويكشف فحص هذه المعايير أنه قد جرى تطويرها وفق منهجية التفكير المنطقي (Logical Framework of Thinking)، إذ يقوم هذا المنهج على تحديد الغاية المقصودة إبتداء، ثم ينتقل لتحديد العقبات التي تعيق تحقيق هذه الغاية، ثم ينتقل لشرح وسائل معالجة هذه العقبات وفق تسلسل منطقي بين المعايير التي جرى تطويرها، بحيث يتأسس المعيار اللاحق على خلاصة المعيار السابق.
وقد شرعت الدراسة في تطوير المعايير تأسيساً على حقيقة مفادها أن الأمن الذي تنشده إسرائيل يكمن في تحقيق السلام مع الدول والشعوب التي تناصبها العداء، الأمر الذي يقتضي التفرقة بين معيارين اثنين يتجليان في التفرقة بين نوعين من السلام، السلام الحقيقي كمعيار أول، والسلام القانوني او السلام المحمي (Protected Peace) كمعيار ثاني، على أن تجري التفرقة وفقاً للتعريفات المتضمنة في الإستراتيجية العسكرية التي كان قد طورها العميد أبرهام تامير (براشا) في العام 1981، والتي لا زالت من الوثائق المصنفة في وزارة الدفاع.
وكانت وثيقة (براشا) قد عرفت السلام الحقيقي بالسلام الذي تختفي أو تنعدم فيه التهديدات والمخاطر، وعرفت السلام الديبلوماسي/القانوني او السلام المحمي بالسلام الذي ينشأ بناء على معاهدات واتفاقيات بين الشعوب، ولكنه السلام الذي تبقى فيه التهديدات قائمة وكامنة، أي انه شكل آخر من أشكال المواجهة، الأمر الذي يتطلب الإبقاء على القدرة العسكرية للأمة خاصة تفوقها الإستخباري في أفضل الحالات لمواجهة التهديدات التي قد تنشأ، أو بعبارة أخرى لحماية هذا السلام.
وحول الإطار النظري والمفاهيمي، فتكشف قراءة الدراسة (الوثيقة) أن الباحثان قد دمجا في دراستهم للأمن القومي الإسرائيلي بين مقاربتين نظريتين، الأولى هي المقاربة التقليدية لدراسة الأمن التي تقوم على إعتبار الدولة هي وحدة التحليل الأساسية في دراسة الأمن، وأن الأمن القومي للدولة يعتمد بالأساس على قوتها العسكرية باعتبارها الوسيلة الأنجع لمواجهة التهديدات، وأن مصدر هذه التهديدات دائماً يكون خارجي، والثانية هي المقاربة النقدية للأمن لا سيما مقاربة مدرسة كوبنهاجن التي تقارب المسألة الأمنية من خلال العلاقة بين المستويات الأفقية (الدولة، الفرد، المجتمع، الإقليم، النظام الدولي) والأبعاد العمودية (السياسية، العسكرية، الإقتصادية، الإجتماعية، البيئية، التكنولوجية، …).
الدراسة من حيث المضمون: مثل تعريف الدراسة للأمن القومي أول ملامح مضمونها، وكانت الدراسة قد إقتبست تعريف الأمن القومي من قاموس المفاهيم والمصطلحات الخاص بالجيش الإسرائيلي، إذ قدمت وثيقة الجيش، الأمن القومي باعتباره “خلاصة جهود الحكومة في توظيف قدرات الأمة القومية لمواجهة التهديدات التي تهدد البقاء والمصالح في كل الظروف المحتملة”.
وفي السياق ذاته تبين قراءة الدراسة أنها حافظت على المراجع الدستورية والسياسية والفكرية التي استلهم منها مؤسسي الدولة الأوائل إستراتيجية الأمن القومي للبلاد، باعتبارها مصادر ثابثه تستلهم منها الشعوب إستراتيجياتها الوطنية لا سيما استراتيجية الأمن القومي، كما حافظت الدراسة على الغايات القومية (للأمة اليهودية) التي يقع في القلب منها حفظ البقاء في إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، وحافظت الدراسة كذلك على جملة من المفاهيم والفرضيات والمرتكزات كما وردت في إستراتيجة الأمن القومي التي صاغها مؤسس الدولة دافيد بن غوريون لأول مرة في العام 1948.
وكان من اللافت في هذا الشأن تأكيد الدراسة على الأساس الفكري الذي وضعه زعيم التيار الإصلاحي في الحركة الصهيونية زئيف جابوتنسكي في مقالته الشهيرة (الجدار الحديدي) التي نشرت لأول مرة باللغة الروسية في العام 1923، والذي كان بن غوريون قد استلهم منها أفكاره في تحديد المبادئ والمرتكزات التي قامت عليها إستراتيجية الأمن القومي الأولى للدولة، كالردع، والإنذار المبكر، والتفوق النوعي الذي يضمن النصر، علاوة على تأكيد الدراسة على الفرضية الإسرائيلية الثابثة الكامنة في عبارة “أقلية مقابل أكثرية”، التي كانت من الأسس التي بني عليها بن غوريون إستراتيجية الأمن القومي الأولى، وتجدر الإشارة هنا أن الباحث الإسرائيلي في شؤون الأمن القومي “يسرائيل تال” قد كتب في هذا الشأن كتابه الشهير (أقلية مقابل أكثرية، The Few Against the Many) الذي نشرته دار دفير (Dvir) للنشر باللغة العبرية في العام 1996.
أما من حيث دور العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للدولة في تحديد مضمون إستراتيجية الأمن القومي، فقد أكدت الدراسة على الأهمية الإستراتيجية لعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة الأمريكية، واعتماد الأولى على الثانية سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً وإقتصادياً لتوظيف هذه العلاقة في توفير ما تحتاجه الدولة للحفاظ على أمنها القومي.
وفيما حافظت الدراسة على المرجعيات الدستورية والمنطلقات الفكرية والمرتكزات التي قامت عليها إستراتيجية الأمن القومي الأولى للدولة، إلا أن قراءة الدراسة تكشف بالمقابل أنها قد أضافت ما هو جديد من المفاهيم والمرتكزات والفرضيات والتحديات والتهديدات والردود على التهديدات وسياقات هذه الردود، وذلك على ضوء نتائج تحليل الدراسة للواقع الجيوستراتيجي للدولة وما يتضمنه هذا الواقع من نقاط للقوة والضعف والفرص والتهديدات.
ويمكن تلخيص الجديد الذي أضافته الدراسة في النقاط التالية:
-
إعتراف الجنرالين ضمناً بعدم وجود إستراتيجية واضحة للأمن القومي في إسرائيل منذ بداية القرن الجاري، أو إقرارهم بأن الإستراتيجة القائمة، إذا كانت هناك إستراتيجية، فهي بحاجة إلى تحديث وإعادة صياغة، وينبغي هنا التنويه أن مصطلح إستراتيجية أمن قومي قد تكرر أكثر من مرة في الدراسة، إلا أن الباحثان قد ذكرا في الفقرة الأولى من خاتمة الدراسة أن بن غريون وقيادات الجيش الأوائل كانوا قد صاغوا إستراتيجيات عملانية للرد على التهديدات الصعبة المحيطة بالدولة، إلا أنه لم يجري أبداً دمج هذه الإستراتيجيات في إستراتيجية أمنية متكاملة ومتماسكة.
-
ولذلك دعت الدراسة علناً الى صياغة إستراتيجية جديدة للأمن القومي في إسرائيل، الأمر الذي يمكن الإستدلال عليه من إقدام جنرالين سابقين في الجيش الإسرائيلي أحدهم بوزن رئيس الأركان على إعداد ونشر الدراسة، لا سيما وأن غايتهم من النشر كما وردت في مقدمة وخاتمة الدراسة هي إثارة نقاش عام في أوساط القيادات والنخب الأمنية والإقتصادية والإعلامية والتكنولوجية والأكاديمية والسياسية، يؤدي في نهاية المطاف الى صياغة إستراتيجية أمن قومي قادرة على حماية وجود الدولة وصيانة مصالح الأمة.
-
دعوة الدراسة الى مأسسة إستراتيجية الأمن القومي في إسرائيل من الناحيتين النظرية والإجرائية، الأمر الذي يستدل عليه من الرسوم البيانية التي وردت في قائمة الملاحق.
-
دعوة الدراسة الى تحول الإستراتيجية في إسرائيل من مفهوم الهجوم المطلق الى مفهوم جديد يدمج بين الدفاع والهجوم عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، إذ فيما أكدت الدراسة أن إستراتيجية الأمن القومي يجب أن تقوم على مفهوم الدفاع، فقد أكدت بالمقابل أن الإستراتيجية العسكرية يجب أن تقوم على مفهوم الهجوم، ومن المفيد هنا الإشارة الى أن إسرائيل قد أضافت الدفاع كركيزة رابعة الى الركائز الثلاث التي كان قد وضعها لأول مرة دافيد بن غوريون كركائز تقوم عليها إستراتيجية الأمن القومي وذلك في أعقاب حرب العام 2006 على لبنان.
-
إضافة تحديات وتهديدات جديدة لقائمة التحديات والتهديات التقليدية وغير التقليدية التي تواجه إسرائيل سواء تلك الجارية، أم المتوقع بروزها في المستقبل، مثل التحديات والتهديدات الكامنة في حملة مقاطعة إسرائيل، وحملة نزع الشرعية عنها، علاوة على التهديدات التقليدية وغير التقليدية التي تمثلها إيران وحلفائها من التظيمات المسلحة اللبنانية والعراقية واليمنية والفلسطينية، وكذلك التهديدات السبرانية.
-
وسلطت الدراسة الضوء عند تناولها للتحديات والتهديدات على الإنقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، بين الفقراء والأعنياء، وبين الشرقيين والغربيين والأثيوبيين، وما بين اليمين واليسار، وبين العلمانيين والمتدينيين، ومن جهة أخرى بين الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية، الأمر الذي عزز من شعور الإنتماء للمجموعة على حساب الإنتماء للوطن، وأضعف من جهة أخرى من دوافع الأفراد الإنضمام للجيش لا سيما للوحدات المقاتلة.
-
ولذلك دعت الدراسة إلى دعوة الدراسة إلى إعتماد فلسفة جيش الشعب الى جانب الجيش النظامي في إطار تعزيز القدرات العسكرية للأمة، على أن يترك للجيش وحده الحق في إختيار من سيخدمون في صفوفه.
-
وفي السياق ذاته دعت الدراسة الى ضرورة إشراك الأقلية الفلسطينية وفئة اليهود المتدينين (الحرديم) في الخدمات الأمنية ذات الطابع المدني كالشرطة والدفاع المدني وخدمات الإسعاف الطبي في جهاز نجمة داوود الحمراء وغيرها من الوظائف، وتجدر الإشارة في هذا الشأن أن الأقلية الفلسطينية تشكل الآن ما نسبته 21% من مجموع سكان إسرائيل، ويشكل اليهود الحرديم ما نسبته 16%، وتتوقع مؤسسة الإحصاء المركزي أن تصل نسبة اليهود الحرديم في إسرائيل الى ما نسبته 25% من مجموع السكان في العام 2048، وتاسيساً على هذه الحقائق تقدر مؤسسات البحث المتخصصة في شؤون الأمن القومي داخل إسرائيل وخارجها أن التهديد الأخطر على أمن الدولة القومي خلال العقدين القادمين يكمن في بقاء اليهود الحرديم والعرب الفلسطينيين الذين سيشكلون أكثر من 50% من مجموع السكان خارج قوة العمل وخارج الخدمة الأمنية والعسكرية.
-
يفسر البند السابق تعدد المفاهيم التي وظفتها الدراسة عند تقديم الشعب في إسرائيل ومدى قوة إنتمائه للدولة، فتارة قدمته كأمة (Nation)، وتارة ثانية كسكان (Residents) وتارة ثالثة كقاطنين (Inhabitants)، وكان من اللافت أنها قرنت تعزيز الإنتماء للدولة بشعور كل مواطنيها انهم يتمتعون بحقوق كاملة ومتساوية.
-
وكان من اللافت كذلك دعوة الدراسة الى تمييز المجندين في صفوف الوحدات المقاتلة في الجيش والوحدات المساندة لها ماليا، لتحفيز الشباب على الخدمة في صفوف هذه الوحدات.
-
أبرزت الدراسة مسألة إعتماد المجتمع على ذاته كأحد أهم الأسس التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي، والمهم أن هذا الإبراز قد أتي في سياق تهيئة المجتمع لتوقع الأسوأ.
-
أضافت الدراسة فرضيات جديدة للفرضيات القائمة ومن أهم الفرضيات الجديدة، فرضية فقدان إسرائيل لقوة الردع، وفرضية تعرض إسرائيل لهزيمة عسكرية واضحة، وقد أوضحت الدراسة في شأن الهزيمة أن إسرائيل يمكنها أن تتعرض مرة واحدة فقط للهزيمة.
-
أضافت الدراسة الإقليم (الدول العربية) كمستوى أساسي من المستويات التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي
-
إعتمدت الدراسة مقياس المستويات والأبعاد الذي تقوم عليه المقاربة النقدية للأمن والذي طوره باري بوزان في تطوير إستراتيجية الأمن القومي الجديدة.
-
إضافة مفاهيم جديدة لقائمة المفاهيم المعبرة عن إستراتيجية الأمن القومي في إسرائيل، ومن أبرز هذه المفاهيم مفهوم (BDS) أو مفهوم حركة مقاطعة إسرائيل، ومفهوم نزع الشرعية (Delegitimization)، ومفهوم النصر(Victory)، أي تحديد معنى النصر سياسياً وعسكرياً، ومفهوم التفوق أو الإستعلاء الإستخباري (Intelligence Superiority).
-
سلطت الدراسة الضوء على أهمية دور الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية في خدمة الأمن القومي الأمريكي، وقد جاء هذا الإبراز في سياق الدعوة لمعالجة الأزمات والإنشقاقات التي بدأت تبرز للسطح في الأونة الأخيرة بين هذه الجاليات وإسرائيل كدولة.
العميد أحمد عيسى أبدعت بهذا التحليل العلمي وليته يكون مقررا في مدارس فلسطين والفلسطينيين أينما كانو